أعلنت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، رسميًا في 28 نوفمبر 2024، وذلك بعد وقت قصير من زيارة أجراها وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، ناقش خلالها اقتراحًا فرنسيًا لتقليص وجودها العسكري في تشاد من حوالي 1000 إلى نحو 300 جندي. ووصف وزير الخارجية التشادي عبد الرحمن كلام الله إنهاء الاتفاقية بـ”نقطة تحول تاريخية” للبلاد، التي حصلت على استقلالها قبل ستة عقود، وربط القرار بالتأكيد على سيادة تشاد وإعادة تعريفها لشراكاتها الاستراتيجية وفق أولوياتها الوطنية.
لم يكن ذلك آخر القرارات السلبية تجاه النفوذ الفرنسي في أفريقيا؛ فقد أعلن الرئيس الإيفواري “الحسن واتارا” في خطابه بمناسبة نهاية عام 2024، سحب القوات الفرنسية (600 جندي)، مؤكداً على تحديث الجيش الإيفواري كسبب رئيسٍ لهذا القرار. وسيتم تسليم الكتيبة 43 مشاة البحرية، المتمركزة حاليًا في ميناء بويت في مدينة أبيدجان، إلى القوات المسلحة الإيفوارية.
وفي السنغال، أنهى الرئيس الجديد “باسيرو ديوماي فايي”، في نوفمبر 2024، اتفاقية دفاع كانت قائمة منذ استقلال البلاد عام 1960، ليبدأ انسحاب نحو 350 جندي فرنسي من البلاد. وفي نهاية الشهر التالي، أعلن إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية مؤكدا أن استمرار وجود القوات الأجنبية يتناقض مع وضع السنغال كدولة مستقلة ذات سيادة.
تأتي هذه التطورات ضمن اتجاه أوسع نطاقاً لتراجع نفوذ فرنسا في منطقة الساحل وغرب ووسط أفريقيا؛ إذ قلصت أو أنهت العديد من الدول علاقاتها العسكرية مع فرنسا، خاصة في أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، إذ طُردت القوات الفرنسية وسط مشاعر معادية للاستعمار، غذّتها واستفادت منها بنسب متفاوتة روسيا التي تعمل بشكل حثيث على تعزيز نفوذها في القارة وملء الفراغ الغربي وتقديم نفسها كشريك أمني لدول أفريقيا. وقد ظهر ذلك في اتفاقيات أمنية مع فيلق أفريقيا “مجموعة فاغنر” سابقا، والتي لعبت دورا ساهم في تعقيد موقف فرنسا.
فرنسا تتراجع في الساحل ونزيف حاد في نفوذها
ووفقًا لتقارير سابقة وتقديرات استخبارية، في يونيو 2024، فقد استهدفت فرنسا تخفيض عدد جنودها في قواعدها في القارة الأفريقية، باستثناء جيبوتي. إذ كان يتوقع خفض عدد الجنود إلى نحو 100 جندي من 350 جندي في كلا من الجابون والسنغال، وإلى 600 جندي من ألف جندي نشط في ساحل العاج، ونحو 300 جندي في تشاد من 1000 جندي.
في ضوء ذلك؛ تأسست قيادة أفريقية جديدة (CPA) في أغسطس/آب، بقيادة الجنرال “باسكال ياني”، كي تتولى مهمة بناء شراكات أمنية وعسكرية جديدة تتجاوز مجالات النفوذ التقليدية الفرنسية، وذلك وفقًا لمذكرة داخلية في سبتمبر 2024. وتعتبر هذه القوة بمثابة بنية عسكرية جديدة تتبنى نهجا عملياتيا جديدا، يتلخص في:
بناء تعاون أمني مع الدول الأفريقية يبتعد عن النهج الفرنسي العسكري المركزي التقليدي.
رفع قدراتها في التكيف مع التغييرات السريعة في المشهد الأمني الأفريقي من خلال تلك الشركات التي تعطي مساحات أوسع من الحركة والعمل.
ويهدف هذا النهج الجديد إلى توسع فرنسا في مناطق خارج مستعمراتها التقليدية. إذ بدأت القيادة الأفريقية الجديدة العمل على خطط لتوسيع التعاون الأمني والعسكري في غينيا وموريتانيا وبنين والكاميرون والكونغو، كما تدرس القيادة التعاون مع تنزانيا شرق القارة، ومع ناميبيا وبوتسوانا جنوب القارة، بل إنها وضعت أيضا الدول الناطقة بالإنجليزية مثل غينيا ضمن تلك الاستراتيجية لتكون الدولة الثانية بعد تنزانيا.
ويأتي هذا التراجع الفرنسي كنتيجة لتصاعد الضغط على نفوذ باريس في العديد من الدول الأفريقية، وخاصة في المستعمرات السابقة، والتغيرات السياسية والانقلابات العسكرية في دول منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وفي مقدمتها مالي وبوركينا فاسو والنيجر والتي انسحبت من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وتسعى لتطوير اتحاد كونفدرالي بعيدا عن النفوذ الغربي بل يتبنى رؤية سلبية تجاه فرنسا بصورة خاصة.
بل واستهدف أيضا تقويض الحضور الأمريكي كما في قرار النيجر بإلغاء الاتفاقيات معها في مارس/آذار 2024. ويتوج هذا التراجع الفرنسي فشلا عسكريا وسياسيا، يؤكد على عدم فعالية عملياتها العسكرية في هزيمة الجماعات الجهادية والانفصالية في المنطقة، خاصة العملية “برخان” التي أطلقتها عام 2013، وفشلت في تحقيق الاستقرار بالمنطقة، بل وتسببت في نزوح نحو 2.5 مليون.
دول الساحل تسحب البساط من تحت فرنسا وتقرر مستقبلها بعيدا عن باريس
يشير إعلان كل من تشاد وساحل العاج والسنغال إنهاء الاتفاقيات مع فرنسا إلى أن الدول الأفريقية بدلا من القبول بخفض القوات الفرنسية وإعادة تعريف دورها وجدت الفرصة سانحة لطلب سحبها وإنهاء الاتفاقيات الدفاعية، استجابة لصعود المشاعر القومية المعادية لفرنسا في المنطقة، وتتبنى عدة دول بمنطقة الساحل الأفريقي توجها لتقليص النفوذ الغربي وتعزيز العلاقات مع روسيا وأطراف إقليمية أخرى مثل تركيا، وربما إيران. وإن كانت طهران تواجه في الأجل القريب قيودا واسعة ستحد على الأرجح من تركيزها على أفريقيا.
تعتبر ساحل العاج أقل الدول التي تعرضت لهجمات مسلحة منذ عام 2020 بالمقارنة مع باقي جيرانها، مما يجعلها حاليا أقل احتياجا للاستعانة بقوات أجنبية. لكنّ هذا لا ينطبق على دول أخرى خاصة تشاد. إذ إن من المحتمل أن الطلب الفرنسي بتقليص عدد القوات قد سبب قدرا من عدم الثقة لتزامنه مع اضطرابات محلية وتهديدات خارجية قادمة من السودان، خاصة بعد قرار المجر تأجيل نشر قوة محدودة في تشاد.
فعلى المستوى العملياتي وقعت عدة معارك كبيرة مع الجماعات المسلحة وتنظيم بوكو حرام مؤخرا، فقد قتل 40 جنديا تشاديا بالتزامن مع إطلاق الرئيس محمد إدريس ديبي في 28 أكتوبر 2024 في عملية “هاسكانيت”، وهي تعتبر أحد أكبر العمليات منذ سنوات. كما قتل 15 جنديا وأصيب 32 آخرين في 10 نوفمبر 2024 خلال اشتباكات شديدة مع بوكو حرام في منطقة بحيرة تشاد.
ولذلك؛ فإن من المحتمل أن تنخرط تشاد في تحالف (النيجر، مالي، بوركينافاسو) لتكون العضو الرابع ضمن الاتحاد الكونفدرالي الذي سبق أن أعلن عنه في يوليو 2024، وقد تلعب تشاد دورا فاعلا في القوة المشتركة “لمكافحة الإرهاب” التي شكلتها دول التحالف. فيما لا يتوقع أن تنخرط السنغال أو ساحل العاج في ذلك التحالف لاعتبارات سياسية وعسكرية، إذ لا تواجه تهديدات أمنية كالتي تواجهها الدول المنخرطة في التحالف. كما أن النظام السياسي فيهما يختلف من حيث البنية وآليات التصعيد والنظام الحكم.