منذ اعتراف باريس بخطة الحكم الذاتي للصحراء الغربية في جويلية الفارط، بدأت العلاقات بين فرنسا والجزائر في التأزم، وتلتها سلسلة من التوترات الخطيرة وصلت إلى حد طرد “دبلوماسيين” جزائريين من الأراضي الفرنسية.
وقبل نحو أسبوعين، في خطوة تعتبر الأكثر استفزازا منذ تدهور العلاقات بين البلدين، أقرت باريس وضع قيود على حركة ودخول الأراضي الفرنسية طالت بعض الشخصيات الجزائرية، من بينهم المدير السابق للديوان الرئاسي الجزائري، عبد العزيز خلاف وزوجة السفير الجزائري في مالي.
ويأتي هذا بعد سلسلة من التصريحات أطلقها كبار المسؤولين الفرنسيين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء، فرانسوا بايرو، في 26 نوفمبر الفارط، هددوا من خلالها بإلغاء اتفاقية 1968 في حالة عدم امتثال الجزائر للإملاءات الفرنسية فيما يتعلق بترحيل المهاجرين الجزائريين الغير شرعيين.
الدبلوماسية الجزائرية تغير وجهتها
جميع وردا على هذه الإستفزازات، أطلقت الخارجية الجزائرية بيانا أعلنت فيه بأن الجزائر سترد بالمثل وبشكل صارم وفوري على القيود التي قد تفرضها باريس على حركة التنقل، دون استبعاد اللجوء إلى تبدابير أخرى”.
وكخطوة أولية، وقعت الجزائر على اتفاقية الإعفاء من التأشيرة مع دولة سلوفينيا، الواقعة في حيز شنغن، ويتيح هذا الإتفاق، الذي تم إضفاء الطابع الرسمي عليه في 9 مارس الفارط بموجب مرسوم رئاسي وقعه عبد المجيد تبون، فرصة جديدة لحاملي
جوازات السفر الدبلوماسية وكذا البعثات الرسمية للتنقل بسهولة إلى المنطقة الأوروبية دون المرور بالقيود الإدارية .
ليس هذا فحسب بل قامت السلطات الجزائرية بتعليق التعاون القنصلي مع ثلاث محافظات فرنسية نيس مونبلييه، ومرسيليا، وبذلك تكون قد أوقفت تعاونها مع السلطات الفرنسية، وتجميد الاستماع القنصلي للسجناء والمحتجزين الجزائريين، وعدم إصدار أي تصاريح قنصلية للمهاجرين غير النظاميين الذين تستعد فرنسا لترحيلهم، حتى إشعار آخر، حسب ما نقلته محطة أوروبا1.
كما هددت الجزائر بتوسيع هذا التعليق القنصلي ليشمل باقي القنصليات التي يبلغ عددها 18.
إضافة إلى هذا، رفضت السلطات الجزائرية دخول مواطنين جزائريين جديدين، طردتهما فرنسا، يوم الجمعة 7 مارس، وكذلك يوم الاثنين 10 مارس، ليصبح عدد المرحلين الذين أعادتهم الجزائر منذ بداية العام الحالي، 23 شخصا، وفق ما نقلته صحيفة
“لوفيغارو”.
فرنسا توسع إجراءاتها لتشمل تقليص عدد التأشيرات
بعد إصدار قرار يمس حركة وتنقل الدبلوماسيين الجزائريين هاهي تقدم الحكومة الفرنسية بإجراء آخر ولكن هذه المرة يشمل المواطنين الجزائريين حيث قررت الأخيرة تقليص عدد التأشيرات التي ستصدرها للجزائريين لهذا العام بنسبة 28% مقارنة
بالعام الفارط، وفقا لمعلومات من صحيفة “لوبوان” .
ويؤكد هذا القرار عدم وجود أي نية للتراجع أو التهدئة من قبل المسؤولين الفرنسيين .
إضراب الأطباء الجزائريين في فرنسا وعلاقته بالأزمة بين البلدين
يبدو أن التوتر الدبلوماسي بين البلدين سيؤثر حتى على الجالية الجزائرية المتواجدة في فرنسا، وخاصة الأطباء الذين دخلوا مؤخرا في إضراب عن الطعام مرفوقا بوقفة احتجاجية أمام مقر وزارة الصحة الفرنسية مطالبين بإنصافهم فيما يخص آلية التوظيف، حيث يحصل هؤلاء الأطباء على عقود قصيرة الأمد قابلة للتجديد و بأجور منخفضة مقارنة بزملاء هم الفرنسيين.
ويُقدر عدد هؤلاء الأطباء اليوم بين 4 و 5 آلاف وفق عدة نقابات وقد ارتفعت أعدادهم خلال جائحة كوفيد – 19 .
وكان الرئيس الفرنسي العام السابق قد وعد بتسوية وضعية هؤلاء الأطباء، غير أن الظروف التي تمر بها العلاقات بين البلدين جعلته يعيد النظر في هذا الملف.
ومن المتوقع أن تضرب أزمة جديدة القطاع الصحي الفرنسي، ما سيؤدي إلى انهياره، خاصة وأن البلاد تعاني من نقص حاد في كوادرها الطبية
باريس تنتقل إلى الإستفزاز الأمني
وفي خضم الأزمة بين فرنسا والجزائر، يأتي الإعلان عن المناورات العسكرية التي ستنظم في 6 من سبتمبر القادم بين باريس والرباط في منطقة الراشيدية بالقرب من الحدود الجزائرية، ليزيد الطين بلة ويزيد من حدة التوتر في العلاقات بين البلدين بشكل غير مسبوق .
وعلى إثر هذا الخبر تم استدعاء السفير الفرنسي في الجزائر ستيفان ،رومانيه مرة أخرى إلى وزارة الخارجية الجزائرية في 6 مارس حيث احتجت على هذه الخطوة الإستفزازية معتبرة بأنها تحمل معاني كثيرة وترفع مستوى التوتر إلى درجة غير مسبوقة من الخطورة.
تبادل الإتهامات بين البلدين على المستوى الإستخباراتي
اتهمت الحكومة الفرنسية مؤخرا المخابرات الجزائرية بالتجسس ومحاولة التخفي وراء ستار البعثات الدبلوماسية للحصول على معلومات من جهات تعمل داخل الإدارة الفرنسية بمختلف الوزارات.
وبحسب معلومات لصحيفة “لو” باريزيان ، ألقت المديرية العامة للأمن الداخلي الفرنسي، في 16 ديسمبر 2024، القبض على مسؤول فرنسي من أصول جزائرية يعمل في مديرية فرعية بوزارة الاقتصاد بشبهة التجسس لصالح الجزائر.
وتم اتهامه بتسليم معلومات إلى المخابرات الجزائرية واعترفت سيلين بيرثون رئيسة المديرية العامة للأمن الداخلي (DGSI) ، 13 مارس على موقع “فرانس إنفو”، بأن الوضع مع الجزائر أصبح الآن معقدًا”.
وقد يكون للتوترات الدبلوماسية بين فرنسا والدولة التي يقودها عبد المجيد تبون، والتي استمرت في التفاقم في الأسابيع الأخيرة، تداعيات على الأمن الداخلي لفرنسا.
وكانت الحكومة الجزائرية بدروها قد وجهت اتهامات لجهاز الإستخبارات الفرنسي بمحاولة زعزعة أمن واستقرار البلاد من خلال تجنيد إرهابيين سابقين في الجزائر وتوجيههم لتنفيذ هجمات إرهابية في العاصمة، وهذا ما دفعها إلى استدعاء السفير الفرنسي ستيفان رومانيه أنذاك لـ “توجيه” توبيخ” لحكومته.
فرنسا تستخدم الإعلام كوسيلة ضغط
قبل أيام قليلة من الآن عرضت إحدى القنوات الإعلامية الفرنسية فيلم وثائقي يحمل عنوان ليلة العشرين ساعة حول الممارسات المزعومة لأجهزة المخابرات الجزائرية على الأراضي الفرنسية للضغط على المعارضين والناشطين .
ويظهر الوثائقي الفرنسي أساليب أجهزة المخابرات الجزائرية في الاتصال بالمعارضين المنفيين في فرنسا وإقناعهم بالتعاون من خلال تقديم معلومات عن نشطاء آخرين مقابل عودتهم إلى الجزائر دون التعرض لملاحقات أمنية.
كما سلط الوثائقي الضوء أيضا على أن عمليات النظام تتجاوز التأثير على الشبكات الاجتماعية، بما في ذلك الإجراءات المباشرة على الأراضي الفرنسية لتحييد المعارضين .
وردت وسائل الإعلام الجزائرية عن هذا الوثائقي واصفة إياه بأنه “مؤامرة خسيسة” لتشويه سمعة أجهزة الأمن الجزائرية، كما اتهمت وسائل الإعلام الفرنسية بالترويج لمعلومات مضللة.
الخلاصة
بعد سياسة التنديدات التي انتهجتها الجزائر منذ اندلاع الأزمة بين البلدين، يبدو أن الحكومة الجزائرية قررت البدء في تنفيذ مبدأ المعاملة بالمثل.
ومن المنتظر أن تقوم في الأيام القادمة بإجراءات أكثر صرامة وحدة، خاصة مع اعلان باريس عن المناورات العسكرية مع المغرب بالقرب من الحدود الجزائرية.
ومع هذا التصعيد الجديد، دخلت العلاقات الجزائرية الفرنسية مرحلة من الجمود الدبلوماسي غير المسبوق، مما قد يؤدي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بصفة نهائية بين البلدين وغلق سفاراتهما.