على مدى سنوات قد تكون قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، إلا أنّها ولجسامة الأحداث التي طبعتها على خلفية تحولات جيوسياسية إقليمية ودولية بدت وكأنها عقود من الأزمات والمشاكل المتلاحقة التي أفرزت تغيرات تكاد تكون جذرية ومصيرية، استطاعت الجزائر أن تحافظ على استقرار سياسي وأمني واجتماعي واقتصادي واضح وملحوظ لا تخطئه العين في بحر متلاطم من التدخلات والاستفزازات.
لقد أثبت هذا الاستقرار أنّ للجزائر بنية قوية مشكلة من عناصر أساسية يعمل تلاحمها على منع أي تأثيرات سلبية للأوضاع التي تفرزها البيئة الدولية والإقليمية، ومهما علت أصوات هنا أو هناك تسعى لفرض وضع داخل الجزائر يتناسب مع تحقيق أحلام ماضية أو أطماع حالية، فإنّ الجزائر تستمر في المحافظة على كيانها وحدودها بصفتها دولة مستقلة لها قرارها السيادي وجمهورية لها نظامها المتجذر والأصيل.
وسواء استفز الرئيس الفرنسي ماكرون الجزائر بإدارة ظهره لها واعترافه بالسيادة المزعومة للمغرب على الصحراء الغربية، أو عاد الرئيس الأمريكي ترامب مجددا إلى سدّة الحكم ليرافع من أجل قراره المشؤوم ذاك من جديد، فإنّ الجزائر تقف شامخة واثقة بمبادئها الراسخة الملتزمة بالسلم وتغليب الحوار والالتزام بمواثيق الشرعية الدولية والتمسك بحقوق البلدان والشعوب المستضعفة.
لقد أدهشت هذه المعادلة الصعبة دولا عظمى وحكومات قوية وكيانات كبرى، كما استغربت لها دول مطبعة أصبح دورها تنفيذ أجندات خارجية معادية للشعوب العربية والإسلامية، وكان سؤالهم الذي أجمعوا عليه هو “كيف للجزائر أن تحافظ على استقرارها ووحدتها وسط محيط إقليمي مضطرب لم تسلم منه جميع الدول ما عدا الجزائر؟”
إنّ الإجابة على هذا السؤال المحيّر لتلك الأطراف غير البريئة ليس بالأمر الصعب على بلد التحم فيه شعبه مع قيادته وجيشه .
شعب واعٍ وذكي ومسالم
صنع أسلاف الشعب الجزائري على مدار قرون خلت، عقليةً فذّة من طراز فريد أورثته طباعا اجتماعية وسلوكات سياسية أصبحت تمثل مظهرا حضاريا أصيلا يستخدمه الجزائريون لمجابهة المخاطر المحدقة وطرد الغزاة وتأديب الخونة والعملاء وتفويت الأطماع على الأعداء.
إنّ هذه الخاصية النفسية الجماعية للشعب الجزائري هي ما أكسبته القدرة على الانتباه جيّدا لقياداته التي تفرزها المحكات المصيرية، حدث هذا خلال محطات تاريخية عديدة لعل أبرزها الثورات الشعبية والثورة التحريرية عندما التف الشعب الجزائري حول قياداته الثورية وأسند ظهور الجيوش المحرّرة، وأيضا بعد الاستقلال حينما التف الجزائريون حول القيادة السياسية التي شرعت في بناء الدولة الجزائرية، وكذلك إبان الأزمة الأمنية خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث اصطف الشعب خلف قيادته وجيشه من أجل دحر الإرهاب.
تلك الخاصية النفسية والاجتماعية منحت الجزائريين وعيا كبيرا وذكاء حادا لاكتشاف المخاطر والمقدرة على تجاوزها عبر إيثار الحلول والوسائل السلمية على غيرها من الخيارات العنيفة ومجهولة المصدر والمصير، رأينا ذلك خلال إجماع الشعب الجزائري على المصالحة الوطنية، وأيضا اختياره للحلّ الدستوري كمخرج من الغموض السياسي الذي أعقب حراكه السلمي الذي أعطى نموذجا عالميا في حلّ الإشكالات السياسية العويصة بسهولة ويسر.
جيش قوي منضبط وملتزم بمبادئ الجمهورية
ورث الجيش الوطني الشعبي عن سلفه جيش التحرير الوطني عقيدة الانتماء إلى الحاضنة الشعبية والدفاع عن التراب الوطني ضدّ المستعمرين والغزاة والأعداء، وكان الشعب دائما هو الحاضنة لهذه المؤسسة العتيدة يمدّها بأبنائه ليكونوا جنودا على ثغور هذا الوطن، فأصبح بذلك الجيش الوطني شعبيا، يستمد من الشعب قوته ويضعها في سبيله، وقد عبّر شعار “الجيش الشعب خاوة خاوة” الذي صدحت به حناجر الجزائريين في حراكهم الأصيل والمبارك ضد الانتهازيين والفاسدين، إيمانا منهم أنّ المؤسسة العسكرية هي ركيزة أساسية في بناء الدولة يجب المحافظة عليها لتحمي الشعب من غوائل أيّ سيناريو يستهدف لحمة الشعب الجزائري أو أي عدوان خارجي أو مؤامرة يخطط لها الأعداء.
قيادة حكيمة ومتيقظة للمؤامرات
أفرز حراك الشعب الجزائري قيادة سياسية عرفت كيف تسير وسط حقول الألغام المزروعة في المنطقة المليئة بالأشواك، فعملت منذ البداية على بعث الدبلوماسية الجزائرية التي كانت مغيبة عن المحافل الدولية بسبب الإرادات الفاسدة للعصابة التي غلّبت مصالحها الذاتية على المصالح العليا للبلاد، فبرز دور الجزائر من جديد في محطات عدّة بصفتها وسيطا يسعى إلى تصفير الأزمات في إفريقيا، خاصة في الأزمة الإثيوبية السودانية المصرية، أو ما يعرف بسدّ النهضة، ثمّ جهودها الحثيثة لإحلال الاستقرار في مالي والنيجر وليبيا التي كانت تعاني من غياب سيطرة الدولة وتحمها في النواحي الأمنية، ما انعكس سلبا على الجزائر التي شهدت حدودها الممتدة من الجنوب الغربي إلى الجنوب الشرقي تصاعدا للجريمة المنظمة العابرة للبلدان بمختلف أشكالها، من تهريب وهجرة غير شرعية وإرهاب عابر للحدود، وهنا برز دور الجيش الوطني الشعبي في استئصال هذه الظاهرة.
وعلى المستوى المحلي، استطاع رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، أن يتعامل بشكل ملفت مع الابتزاز الذي كانت تقوم به أذناب العصابة التي تسببت في افتعال الندرة في السلع الغذائية وأزمات قلة السيولة، في بداية عهدته الأولى، ما أثر سلبا على القدرة الشرائية التي سرعان ما عرفت استقرارا تلاه تحسن كبير على إثر السياسات والإجراءات التي اتخذتها حكوماته المتعاقبة من رفع للأجور ومنح التقاعد وإقرار لمنحة البطالة، الأمر الذي أعاد إلى الشارع الجزائري استقراره في محيط إقليمي لا تزال دوله تعاني من أزمات تكاد تعصف ببنيته الاجتماعية والسياسية.