في مقابلة لاذعة وحازمة مع صحيفة “لوبينيون الفرنسية”، وجه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون نقدًا لاذعًا لحالة تدهور العلاقات الفرنسية الجزائرية، وعزا الخلاف إلى العداء المستمر المنبعث من بعض الجهات السياسية الفرنسية. بصراحة ودون مجاملة، قام تبون بتشريح الأسباب الجذرية للعلاقات المتوترة، وندد بالنفاق والمعايير المزدوجة والاستغلال الانتهازي للجزائر داخل المشهد السياسي المحلي في فرنسا.
مناخ من العداء والتلاعب
لم يتردد الرئيس تبون في إدانة الخطاب التحريضي الذي تروج له شخصيات اليمين المتطرف العنصري في فرنسا، والتي اعتبرها مسؤولة عن تسميم المناخ السياسي بين البلدين. “الجو سام؛ “نحن نضيع الوقت مع الرئيس (إيمانويل) ماكرون”، كما أعرب عن أسفه، مشيرًا إلى العقبات المستمرة في حل المظالم التاريخية على الرغم من اللقاءات الدبلوماسية رفيعة المستوى.
وفي إشارة إلى خارطة الطريق الطموحة التي تم وضعها في أعقاب زيارة ماكرون إلى الجزائر في عام 2022، والتي تم تعزيزها بزيارة رئيسة الوزراء آنذاك إليزابيث بورن – التي وصفها بأنها “امرأة كفؤة تعرف ملفاتها” – اعترف تبون بأن الحوار السياسي قد انهار تقريبًا باستثناء العلاقات التجارية. وأكد أن السبب يكمن في “التصريحات العدائية اليومية من السياسيين الفرنسيين”، مستشهدًا بشخصيات من أقصى اليمين مثل إريك سيوتي وجوردان بارديلا، الذين أدى خطابهما التحريضي إلى تفاقم التوترات.
كما أعرب عن مخاوفه بشأن القيادة المحتملة لمارين لوبان، متسائلًا عما إذا كانت حكومتها ستلجأ إلى تدابير استبدادية ضد الجزائريين: “كيف تنوي السيدة لوبان التصرف إذا تولت السلطة؟ “هل ستنظم حملة اعتقالات أخرى على غرار حملة فيل ديف، وتسجن جميع الجزائريين قبل ترحيلهم؟” لقد أبرزت المقارنة الصريحة قلق تبون من عودة ظهور الروايات المتطرفة في السياسة الفرنسية.
الذاكرة التاريخية: حساب متوقف
كما تناول رئيس الجمهورية إحجام فرنسا عن مواجهة ماضيها الاستعماري بالكامل، وخاصة قضية التلوث النووي من التجارب التي أجريت في الصحراء الجزائرية. وأصر على أنه “لا ينبغي إخفاء أي شيء”، مؤكداً على الضرورة الأخلاقية والإنسانية والسياسية لتطهير المناطق المتضررة وتقديم الكشف التاريخي الكامل. وحذر من أن الفشل في القيام بذلك قد يدفع الدولتين نحو “قطيعة لا يمكن إصلاحها”.
وفيما يتعلق بالموضوع الحساس للمصالحة التاريخية، أقر تبون بعمل المؤرخ بنيامين ستورا واللجنة الفرنسية الجزائرية المشتركة المكلفة بتوثيق الفظائع الاستعمارية. ومع ذلك، أعرب عن أسفه لعدم وجود عمق في النتائج التي توصلوا إليها، قائلاً: “أكن احترامًا كبيرًا لستورا، لكنني متأسف لأننا لم نذهب بعيدًا بما فيه الكفاية في معالجة القضايا الأساسية”.
اتفاقيات 1968: هدف سياسي مناسب
بالانتقال إلى الدعوات المتجددة داخل فرنسا لإلغاء اتفاقيات 1968 الفرنسية الجزائرية، التي تنظم حقوق الهجرة والإقامة، رفض تبون مثل هذه المطالب باعتبارها مجرد مواقف سياسية. وتساءل: “لماذا نلغي نصًا تم مراجعته في عام 1985 و1994 و2001؟”، مسلطًا الضوء على كيفية استغلال بعض الساسة الفرنسيين لهذا الموضوع لمهاجمة الاتفاقيات الفرنسية الجزائرية الأوسع نطاقًا، بما في ذلك اتفاقيات إيفيان لعام 1962 التي أنهت الحكم الاستعماري. وشبه الخطاب بالديماغوجية التي تبناها بيير بوجاد، الذي أججت حركته القومية المتطرفة نيران المشاعر المعادية للجزائر في الماضي.
التلاعب بالإعلام وحملة بولوري المناهضة للجزائر
خصص تبون كلمات قاسية بشكل خاص للإمبراطورية الإعلامية الفرنسية التي يسيطر عليها فينسنت بولوري، متهمًا إياها بقيادة حملة متعمدة لتشويه صورة الجزائر. وأعلن أن “مهمتهم اليومية هي تدمير سمعة الجزائر”، منددًا بخنق وجهات النظر البديلة في الخطاب العام الفرنسي. ومع ذلك، أوضح أن الجزائر تحافظ على علاقات مهنية مع وسائل الإعلام الفرنسية الأخرى، العامة والخاصة، ورسم خطًا فاصلًا حادًا بين الصحافة البناءة والتشهير بدوافع سياسية.
الصحراء الغربية وفلسطين: خطوط حمراء غير قابلة للتفاوض
وعلى الصعيد الدولي، أكد تبون موقف الجزائر الثابت من صراع الصحراء الغربية، كاشفا أنه حذر الرئيس ماكرون صراحة من تغيير الحياد الفرنسي التقليدي لصالح طموحات المغرب التوسعية. وحذر قائلا: “إن تغيير المسار بشأن الصحراء الغربية سيكون خطأ فادحا”، مؤكدا دعم الجزائر الكامل لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير.
كانت رسالته حازمة بنفس القدر فيما يتعلق بفلسطين، مؤكدا أن الجزائر لن تتنازل أبدا عن موقفها. وأكد: “لن نفكر في التطبيع مع إسرائيل إلا في اليوم الذي يتم فيه إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة”، مشيرا إلى معارضة الجزائر المستمرة لجهود التطبيع التي تتجاهل الحقوق الفلسطينية.
وأخيرا، في معرض حديثه عن التكهنات حول مستقبله السياسي، نفى تبون أي فكرة عن التشبث بالسلطة بما يتجاوز ولايته الدستورية. “ليس لدي أي نية للبقاء في منصبي إلى أجل غير مسمى. “سألتزم بالدستور الجزائري”، أكد تبون، مؤكداً التزامه بالحكم الديمقراطي والنزاهة المؤسسية.
إن تصريحات الرئيس تبون الصريحة تؤكد على نفاد صبر الجزائر المتزايد إزاء المناورات السياسية الفرنسية ورفضها الانخراط في حوار صادق ومحترم. ومع استمرار التوترات في التصاعد، يقع العبء الآن على باريس لإعادة معايرة نهجها. فهل تختار فرنسا الدبلوماسية البناءة، أم أنها ستسمح للقوى الرجعية بدفع إسفين لا رجعة فيه بين البلدين؟ على حد تعبير تبون، فإن الإجابة تكمن في “جمهورية فرنسا، وقبل كل شيء رئيسها”.