لا يزال نظام المخزن يراهن على “علاقات قوية ومتينة” مع فرنسا انطلاقا من تسليمها له بأطروحة “الحكم الذاتي” ومن ثمّ قبولها الطوعي بأكذوبة “الصحراء المغربية”.
وفي هذا السياق، تأتي زيارة وزير خارجية فرنسا، ستيفان سيجورنيه،أمس الإثنين إلى المغرب، بعد سنوات من الجفاء الدبلوماسي الذي لم يتأكّد إلى الآن أنه وجد طريقه إلى الزوال، على الرغم من أن وزير خارجية المغرب، ناصر بوريطة، حاول على لسانه إظهار اتفاق مع نظيره الفرنسي على “عزم” بلديهما على طي صفحة أزمة دبلوماسية طبعت علاقاتهما خلال الأعوام الأخيرة، و“السير قدما” نحو إقامة شراكة “استثنائية” متجددة على أساس “الاحترام المتبادل”.
ومن الواضح حسب ما يصدر من تجاذبات وتفاعلات مختلفة بين باريس والرباط، أنّ المشكلة الأساسية بين الطرفين لا تكمن في الاتهامات التي وجهتها أوساط إعلامية وسياسية فرنسية للرباط بالتجسس على مسؤولين رفيعين بينهم الرئيس إيمانويل ماكرون في إطار قضية ”برنامج التجسس بيغاسوس” في وسط سنة 2021 وهي اتهامات حاولت سلطات المخزن نفيها، على خطورة هذه الاتهامات وما تتركه من حساسية لدى الجانب الفرنسي، والتي قالت عنها تلك الأوساط الإعلامية أنها تسببت في “تعكير العلاقات” بين البلدين.
لقد أفصح بوريطة عن لبّ المشكلة بتصريحه أمام نظيره الفرنسي، حينما أكّد أن علاقة البلدين “قوية”، لكنه اعتبر أنها “يجب أن تتجدد وتتطور وفق مبادئ الاحترام المتبادل والطموح والتنسيق، وعلاقات دولة لدولة”، وهنا يتضح أن كلامه لم يخلُ من إيحاء ضمني بما صرّح به الملك محمد السادس في أوت 2022 بقوله: “ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل”.
محمّد السادس الذي وضع شرطا ومحدِّدا لعلاقات بلاده مع فرنسا، وغيرها، مبني على أساس أنّ“ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”، وفق ما جاء في تصريحه ذاك، غاب عنه أنّ دول العالم لا تبني علاقاتها مع بعضها على أساس الشروط والمحددات المسبقة بل على المصالح وحدها تبنى العلاقات بين الدول، فهل من مصلحة باريس أن تخضع لشرط محمّد السادس أم أنها تبني سياساتها الدولية على أساس مبادئها الخاصة والتي أعلنت في غير مناسبة أنّها تؤيّد الشرعية الدولية فيما يتعلّق بقضية الصحراء الغربية، وهل تغيّر الموقف الفرنسي حتى تنتعش أطماع المخزن بزيارة سيجورنيه للرباط؟!
وفي راهن العلاقات الملتبسة على ضفتي المتوسط، نجد أن الطمع المغربي المتولّد من اعتراف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بأن يضغط على الدول الغربية والأوروبية بما فيها فرنسا، بعدما رضي نظام المخزن بتطبيع علاقاته مع الكيان الصهيوني كخطوة ضرورية لما بعدها، تحول إلى مجرّد أوهام تذروها الرياح، لا سيما أنّ الإدارة الأمريكية ما لبثت أن غيرت جلدها بصعود جو بايدن إلى الحكم، وسرعان ما أدارت ظهرها لمشروع المخزن الذي وجد نفسه داخل الثلاجة في سبات عميق.
ولعلّ غلطة المخزن الأزلية تكمن في انتظاره لما تبادر به القوى الكبرى في العالم وتتصدّق به على المغرب من قرارات وإجراءات يراها في صالحه، دون أن يكلّف نفسه عناء تجسيد الأهداف السياسية التي يسطرها، والتي يبدو أنّها من البداية أكبر من إمكانياته وبعيدة أيضا عن الواقع والتاريخ كذلك، فالمغرب لا يملك الحق في الصحراء الغربية لأنه لم يطالب إسبانيا بها حينما كانت تحتلها، ولم يعلن الثورة ضدّها من أجل تحريرها واستقلالها، وكل ما فعله القصر العلوي هو أنّه انتظر خروج إسبانيا من الصحراء الغربية بمحض إرادتها ليضع يده على الأراضي الصحراوية التي حررتها جبهة البوليساريو الصحراوية بالدماء والأشلاء.
سياسة الانتظار والاتكال على القوى الكبرى زرعها ملك المغرب الراحل الحسن الثاني في نفس ابنه محمّد السادس زرعاً، عندما أوصى الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بـ “الاعتناء” بابنه، الملك الحالي، حينما يتسلم السلطة بعد وفاته.
وبعد أن شهدت العلاقات بين الرباط وباريس تدهواً وانحداراً دام ثلاثة أعوام، إلى درجة إرجاء زيارة مقررة لماكرون في 2022 للمملكة عدة مرات وتصريح السلطات المغربية في سبتمبر 2023 بأنها “ليست على جدول الأعمال”، جاء وزير الخارجية سيجورنيه إلى الرباط ليفنّد جميع الانتظارات المتفائلة لنظام المخزن ويسكب عليها الماء البارد، حين أكّد على أن فرنسا تتمسك بالشرعية الدولية في ما يتعلق بقضية الصحراء الغربية.
أمّا كلام الوزير الفرنسي عن دعم باريس “الواضح والمستمر” لمقترح المغرب بمنح الحكم الذاتي للصحراء. وزعمه بقوله: “نعرف إنه رهان وجودي بالنسبة للمغرب”، فليس بجديد على فرنسا التي تدرك هوس المخزن بالأوهام التي لطالما باعته إياها بأثمان باهظة طيلة عقود.
وحول هذا الكلام المستهلك تقول، خديجة محسن فينان الدكتورة في العلوم السياسية والباحثة المغربية في العلاقات الدولية في جامعة باريس1 بأن هذا الموقف ليس جديدا ولا يلبي تطلعات الرباط: “أعتقد أن العلاقات ستعود لسابق عهدها في حال تماهى الموقف الفرنسي مع نظيره الأمريكي بشأن الصحراء، لكن تصريح سيجورينه يتحدث عن الشرعية الدولية بشأن الصحراء. صحيح أن هناك تقدما في العلاقات بين البلدين في ملفات على غرار قضية بيغاسوس وملف التأشيرات الفرنسية. لكن التطلع الرئيسي للمغرب بشأن الصحراء من فرنسا لم يحصل”.
من جهته، يتحدث الدكتور محمد بودن رئيس “مركز أطلس لتحليل المؤشرات السياسية والمؤسساتية” في المغرب عن تغير طفيف في موقف باريس ويقول: “يمكن العثور في تصريح سيجورنيه على فرق أو تعديل دقيق يتعلق بما يمكن تسميته اعترافا فرنسيا ثقافيا واقتصاديا “بسيادة المغرب على صحرائه” من خلال الحديث عن إنشاء مدرستين في الداخلة والعيون بالإضافة إلى عمل المعهد الفرنسي والرغبة في مواكبة الأنشطة الاقتصادية”.
لكن بودن يؤكد أيضا أن “فرنسا ظلت وفية للخط التقليدي بدعم مبادرة الحكم الذاتي منذ 17 عاما بالصيغة نفسها، وموقفها لا يرقى لمواقف الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وألمانيا ويضفي نوعا من “الغموض الاستراتيجي” الذي ربما يرتبط بمصالح فرنسا مع أطراف ثالثة في المنطقة.