نقل المجتمع بقلم / هاجر ميموني

نقل المجتمع بقلم / هاجر ميموني

يكاد الفرد يمارس منذ نشأته عن قصد أو غير قصد، التّضليل في جميع مناحي حياته المدنية، بغير تدبّر أو تمعّن، مبتعدا عن مبدأ المنطقي من الأمور الذي يتماشى مع الطبيعة، وما حطّه هذه المحطّة من التّفكير إلاّ تفكيره السّطحي الذّي أركنه لأسهل الأمور، دافعه في ذلك الانسحاب من عناء مصارحة نفسه ومحاسبتها، ومن ثمّ التّعمق لمعرفة أخطائه وما يصبو إليه، فلو ابتعد شيئا بسيطا عن كسل تفكيره لأحال كل ما يفكّر فيه على المنطق، فيسهل عليه فهم الأشياء كما هي وليس كما يحبّ أن تكون، ذلك أنّ أيّ فكرة حين تسحبها على المنطق يستبين من هذا السّحب مدى تطابقها من عدمه، فيكتشف بسرعة أمرها، إلاّ أن تحنّط أفكاره يجعل منه مسايرا لأفراد المجتمع والذّين انبنى نمط تفكيرهم كما هو منبني عند هذا الإنسان، وتصير بذلك حياة المجتمع ممارسة بشكل سطحي، لا تتعدّى دائرة ما آنسه وتعايش معه، لذلك تنشأ أزمات مجتمعية، وهي في طبيعتها بسيطة ما كانت لتصير مشكلة ثمّ أزمة، لو تخلى الفرد عن سذاجة تفكيره السّطحي الذّي أدى به إلى ممارسة التّضليل على حياته.

فخذ لك مثالا؛ إذا ما عانى مجتمع من غلاء البصل، ورآها أزمة، فما كان عليه أن يجعل منها أزمة لو فكّر في سبب غلاء البصل، لاكتشف من هذا الغلاء أن كسله هو من جعل البصل غاليا فقط، وإذا ما أراد أن يقتني البصل بسعر معقول عليه أن يشمّر على سواعده ويعمل و يتعرّق، فهنا المشكلة لا تكمن في غلاء البصل كما فكر فيها بل في كسله.

كلمة نقل، أوّل ما يتبادر إلى الذّهن عند سماعها، أنّها تتعلّق بنقل السّلع المختلفة أو نقل الأشخاص بأيّ وسيلة نقل كانت، وإن كان الإنسان الأوّل استعمل وسائل نقل مخلوقة وسخّرت له، كالجمال والحمير والفيلة وغيرها من الحيوانات التّي سخّرها له الله، واستعان بها في حياته لتدبّر أمره، فهذا الإنسان بدأ مع الوقت يتطوّر تفكيره، وكان يرى في وسائل النّقل البدائية و بطيئة الحركة، مكبّحة لأحلامه، فراح يفكّر في بدائل لها، ومع الوقت صنع وسائل نقل أسرع من التّي كان يستعملها في بداية حياته المدنية على كوكب الأرض، وصنع مركبات، وسفنا وطائرات، ووسائل أخرى. استطاع بها أن يسيّر حياته بسرعة فائقة جدّا، فصار بالإمكان حاليا إرسال مكتبة كاملة عن طريق البريد الإلكتروني في لمح البصر.

وكم هي سهلة عملية نقل السّلع من مكان إلى آخر، وكم هي سهلة عملية نقل إنسان جسديا حيّا أو ميّتا من جغرافيا إلى أخرى. فإذا نقل حيّا تنقل معه أفكاره المكتسبة، وإن كان ميّتا ينقل جثّة بلا أفكار، وكم هو صعب أن تنقل تفكير إنسان من نمط عاش معه ردوحا من الزّمن وتحنّط، إلى نمط تفكير جديد يخرجه مما اكتسبه وترسّخ فيه وصار عادة من حياته المدنية، وكان لزاما على الإنسان وهو يتطوّر، أن يضع معايير وحدود نقل العقل والتّفكير لديه، وما اهتدى لوسيلة نقل مادية في هذا الصّدد تنقله من نمط تفكير معيّن إلى آخر بغير تكلفة، لكنّه اهتدى إلى علوم عقلية، يستسيغها العقل في حالات تفكيره العادي البعيد عن وضع حالات التّعصب أو الهيجان أو الاستكانة أو الإحباط أو الكآبة، ومن هذه العلوم، الفلسفة، علم النّفس، علم الاجتماع بكل فروعها وتخصّصاتها.

وأول ما يتبادر إلى الذّهن بمجرّد التّفكير في عملية نقل تفكير الفرد من نمط فكره المكتسب تضليلا على نفسه، إلى نمط تفكير جدّ واقعي، هو من يقود عملية النّقل هذه، وهل تلقى قبول هذا الإنسان أم تلقى مقاومة، صحيح؛ فإنّ السّؤالين في محلّهما، ذلك أنّه ومع التّطور الرّهيب الحاصل في وسائل التّواصل، وكثرة مستغليها كلّ يدعو لمذهبه ويقدّم نفسه على أنّه صاحب الخاتم السّحري القادر على حلّ جميع الأزمات، فاخلط بذلك الحابل بالنّابل، وصار من هبّ ودبّ ينظر، والغريب في الأمر أنّهم وجدوا لهم آذانا تصغي وخلقوا لأنفسهم أسباطا وأتباعا، وصار البحث عن النّخب وتحديدهم كمن يبحث على إبرة في كومة تبن، وهو وضع إذا أستكين إليه ستتعمّق أزمة الإنسان والمجتمع.

أمّا فيما يتعلق بمن يقود عمليه النّقل؛ وجب على كل من يقوم بالتفكير في توليها، أن يكون من ذي المستوى العالي من فهم نمط تفكير الإنسان الذّي يجابهه ويسعى معه لنقله من نمط تفكيره المكتسب مع الوقت، إلى تفكير جديد، هذا الفهم لا يتوقف عند حدّ معيّن بل يشمل جميع مناحي تفكير هذا الإنسان، وينحو في ذلك الجدال المعمّق لفهم الأشياء على حقيقتها، وليس كما يفهمها هذا الإنسان على أنها يجب أن تكون كما يريد، وعليه أن يتمتّع بالنّفس الطويل والصّبر، وإلاّ كان جهد من تولى عملية النّقل هذه  كمن يحرث في الماء.

وفيما تعلّق بهذا الإنسان المراد تغيير نمط تفكيره، أن نقل السّلع كما ذكرنا، يكون سهلا  وقد يتمّ في لمح البصر أحيانا، لكن نقل العقل ممّا رسخ فيه وتجذّر إلى منطق تفكير مغاير يتطلّب الوقت، ذلك أن الإنسان بطبعه، إذا ما شعر يوما بتعرّضه لمثل هذا النّقل، تشرئبّ عنده ملكات الخوف والتّوجس، من فقدان حالته التّي عليها ورامها واستكان إليها، ومراكز هذا الخوف عديدة، أهمها؛ مركزه الاجتماعي، مصالح آنية شخصيّة، وغيرها، فينكفئ على نفسه على نمط أشكال متعدّد الأوجه، يقاوم بها كلّ محاولة لتغيير نمط تفكيره.

لكي تسهل عملية نقل الإنسان المراد نقله من نمط تفكيره إلى آخر أكثر منطقية، وجب وضع العمليّة موضع التّنفيذ، وفق منظور متدرّج خال من الاستكانة أو الانسحاب مع المطبات التّي قد تلاقيها في بدايتها، ويكون التّفكير مليّا في مناحي خوفه هو العامل الأساسي في إنجاح العملية، ولكي تنجح عملية النّقل والتّحول، يتعيّن أن تستهدف مراكز الخوف عند الإنسان المراد نقله من نمط تفكيره إلى الآخر الأكثر منطقية، بمجابهتها، وجعلها الهدف الأول بتصويبها على النحو الأصحّ.