بين الذكاء المحض والذكاء العملي/ بقلم هاجر ميموني

بين الذكاء المحض والذكاء العملي/ بقلم هاجر ميموني

ما تواجد على الكرة الأرضية وبقي أو اندثر، وما هو موجود حاليا من أشياء صنعها الإنسان، كل ذلك كان في الأساس مجرد أفكار تدور في ذهن الإنسان، وما كان لهذه الأشياء التي صنعها الإنسان لأن تكون لو بقي ما فكر فيه قابعا في خلده دون الخطو الخطوات الأولى لتجسيده.

دخل مصطلح الذّكاء الاصطناعي على الحياة العامّة للإنسانية، كما دخل سابقيه من المصطلحات، وأن ما يتبادر للذّهن وبسرعة عند سماع هذا المصطلح، أنّ الأمر يتعلّق بالصّناعة، ويتبادر بعدها للذّهن وبسرعة، أنّ الصّناعة تعني الآلة، فيتبادر للذّهن أيضا ويستقر، أنّ الذّكاء الاصطناعي يتعلّق بمكنز مات سير هذه الآلة التّي تستخدم في التّصنيع، ولمّا دخل الحاسوب في العصر الحالي جميع مناحي الحياة، فتكاد تجمع تعريفات الذّكاء الاصطناعي على أنّه: فرع من علم الحاسوب، “دراسة وتصميم العملاء الأذكياء” والعميل الذّكيّ هو نظام يستوعب بيئته ويتّخذ المواقف التّي تزيد من فرصته في النّجاح في تحقيق مهمّته أو مهمّة فريقه” الموسوعة الحرة. وإن كانت مثل هذه المصطلحات، قامت لتصف شيئا منشئا، وأن هذا الشّيء المنشأ، أنشأته وأوجدته عبقريّة الذّكاء الإنساني، فإنّ ذكاء وعبقريّة الإنسان، ما كان لهما لأن يكونا  لولا وجود العقل الإنساني، المحرّك الأساسي لجميع مقدّراته ومداركه، وما كان لينشأ شيء يأخذ له مصطلح بعقل سليم وذكاء محض، دون توظيف عملي للعقل و للذّكاء ميدانيا وعمليّا.
يعد العقل عند الإنسان، المحور الذّي تدور حوله جميع تصرّفاته، ومنه تبنى جميع مُقدّرات معارفه ومهاراته، وسلامة العقل عند الإنسان هي التّي تقاس عليها جميع ملكاته الفكريّة وقدراتها، إذ يعد من الغرابة والعبث، أن تختبر قدرات الذّكاء عند شخص مختلّ عقليّا أو عند شخص مصاب بعاهة في مخّه، وتكاد تجمع التّعريفات على اختلافها، من أن العقل البشري هو العنصر الأساسي الذّي يحرك جميع أفعال الإنسان، وهو القاعدة الأساسيّة التّي تنطلق منها مداركه ومعارفه، ولمّا كان العقل هو المحرّك الأساسي  عند الإنسان، فهذا الإنسان ومنذ نشأته الأولى يستخدم عقله في التّفكير لفهم الأشياء وحلّ مشكلاته، وبفضل ذلك توصّل إلى ثورة معرفية قادته إلى ثورات علميّة مذهلة، فإنسان العصر الحجري أو القرون الوسطى، لو أعيد بعثه في العصر الحالي لأصيب بالجنون لما يراه من تطوّر، وهذا التطور لم يأتي صدفة ودفعة واحدة، وإنّما حدث بفضل العقل البشري وفق  تدرّج في بناء تلك المعارف، وفق تسلسل زمني طويل.
يقول إمانويل كنط ، في كتابه: نقد العقل المحض. ص 281. “فالعقل هو إذن، الشّرط الدّائم لكل الأفعال، الإرادية التّي يظهر فيها الإنسان، وكلّ فعل من أفعاله معيّن في طبع الإنسان الأمبيري حتّى قبل أن يحصل”. وعن عمل العقل يقول: “كلّ غرض لعقلي ( اعتباريا كان أم عمليا) يتوحد في الأسئلة التالية:
1ـ ماذا يمكن أن أعمل؟
2 ـ ماذا عليّ أن أعمل؟
3 ـ ماذا يمكن لي أن آمل؟  المرجع نفسه ص 385
ليصل إلى حتمية اعتماد الإنسان على مقدراته، هو الحل لمشكلاته، وقوله في نفس المرجع ص 281 “من المذل للعقل البشري أن لا يصل إلى شيء في استعمال المحض، بله أن يكون بحاجة إلى انضباط لقمع انحرافاته ووقاية من الأوهام الناجمة عنها، لكن، هناك ما يرفعه بالمقابل ويعطيه الثقة بنفسه، وهو أنه يمكنه، ويجب عليه أن يمارس هذا الانضباط بنفسه من دون أن يسمح بأي رقابة فوقية” .
إذن؛ فسلامة العقل من عدمه هي المؤشّر الذّي يعتمد عليه في مقياس السّلوكيات الأخرى، ومنها الذّكاء. ولا يمكن بأيّ حال أو صفة الأخذ والرّد في مفهوم الذّكاء إن لم يكن العقل سليما، فارتباط الذّكاء بالعقل، ارتباط عضوي، يجعل مقياس الذّكاء مرتبطا بمقياس العقل، ويعد الذّكاء عند الإنسان من الملكات التّي يرتكز عليها في التّطور المعرفي والأدائي.
وتعدّدت صياغات تعريف الذّكاء وتنوّعت، وعن هذا الاختلاف والتّعدد  يقول الدّكتور: عبد المجيد نشواني في كتابه، علم النّفس التربوي، ص 101: “إن صياغة تعريف بسيط وشامل يقبل به علماء النفس كافة ليس أمرا سهلا. فقد تعددت التعريفات واختلفت باختلاف المفهوم الذي يكون كل منهم حول هذه القدرة العقلية الهامة، وعلى الرغم من أن معظم التعريفات تتحدث عن (( قدرة)) الفرد، إلا أن هناك نوعا من عدم الاتفاق على (( القدرة)) التي تشير إليها هذه التعريفات. ففي الحين الذي يشير فيه (بنيه 1905 Ninet ) إلى ( القدرة على الابتكار  والفهم الصحيح والتوجه الهادف للسلوك) يشير تعريف (تيرمان terman 1920 ) إلى(القدرة على التفكير المجرد) ويشير تعريف (وكسلر Wechsler ) إلى القدرة الكلية للفرد على العمل الهادف والتفكير المنطقي والتفاعل الناجع مع  البيئة). وورد تفسير لهذا الاختلاف في تعريف الذكاء بالقول: ربما يعود غموض مفهوم الذكاء وصعوبة تحديده على نحو دقيق إلى كون الذكاء صفةattribute وليس كينونة entity .(ساتلرSAttlr 1982 ) ”
وفي معجم علم النفس والتحليل النفسي،  للدكتور: فرج عبد القادر طه وآخرون، ص 204. ورد
تعريف الذكاء بشيء من التفصيل بـ: “قدرة عقلية عامة، تعتبر الوظيفة الأساسية للذهن  أو العقل، وتتدخل في كافة الأنشطة العقلية أو الذهنية بدرجات متفاوتة، ومن هنا كان تسمية الذكاء بالقدرة العقلية العامة.
والذكاء من أبرز مكونات الشخصية وأشدها خطرا وأقواها وضوحا وتأثيرا. ويتضح ذكاء الفرد أكثر ما يكون فيما يلي:
1 ـ حدة الفهم وسرعته ودقته وصوابه.
2 ـ القدرة على التعلم والتحصيل الدراسي.
3 ـ القدرة على معالجة المواقف الجديدة التي تعترض لها الشخصية بمهارة ونجاح
4 ـ القدرة على إدراك العلاقات المجردة بين الأشياء أو الموضوعات أو الظروف المختلفة.
5 ـ القدرة على التعامل بالرموز والمجردات.
6 ـ القدرة على الإستفادة من الخبرات الماضية في مواجهة المواقف والظروف والمشتكلات الحالة والتعامل معها بنجاح
7 ـ القدرة على لإنجاز أعمال وواجبات تتميز بالتعقيد والصعوبة.
8 ـ القدرة على الإبداع والابتكار والأصالة أثناء قيام الفرد بأوجه نشاطه المختلفة.”
وإذا أخذنا الذّكاء على هذه التّعريفات، فإنّه يبقى الذّكاء قدرة محضة، لا يتعدّى مداها صاحبها، فتضمحّل هذه القدرة مع الوقت لعدم توظيفها للاستفادة من الخصائص التّي تنتج عن التّجارب، وهذه الخصائق جدّ مهمّة في التّطور القدراتي العملي دائما للأحسن، ومن ثمّ يصير الذّكاء العملي هو حتمية وهو المنتج للتّطور.
ومع هذه التّعريفات للذّكاء، وإذا أخذنا معها البنية الفيزيولوجيّة للبشر، فهي تبدو من خلال مظهرها، بأنها غير مُنتَجَة يدويّا، بل هي بفعل خالقها، وإن وجد اختلاف في لون بشرتها وتقاسيم الوجه، فإنّ مجمل  الأعضاء المتشكّلة منها متشابهة: ـ الرّأس ـ البدن ـ اليدين ـ الرّجلين ـ العينين ـ الأذنين .. إلى آخر.
وكما يحمل كلّ عظم رأس جمجمة، يحتفظ بداخلها على عضلة صغيرة هلامية، تسمّى المخّ، هذه العضلة تجتمع فيها جميع الحوّاس الأخرى ومنها العقل، مصدر الذّكاء، وهنا توجد فروقات الذّكاء من شخص لآخر، بيد أنّ هذه الفروقات لا تكون هي دائما السّبب في تقهقر النّاس والمجتمعات وفشلهم، وإنما تعود إلى مكبّحات عديدة، أخطرها الرّكون إلى:
ـ فهم الأشياء بسرعة وبدقّة وصواب. ثمّ إبقاء مقدّرات فهمه دون اتّخاذ موقف عملي ميداني مجسّد.
ـ القدرة على معالجة المواقف الجديدة التّي تعترض لها الشّخصية تحليليا ونظريا، ثمّ إبقاء مهاراته دون اتّخاذ موقف عملي ميداني ووضعها موضع تنفيذ.
ـ القدرة على إدراك العلاقات المجرّدة بين الأشياء أو الموضوعات أو الظّروف المختلفة. ثمّ حبس مدارك في ذهنه نظريّا، دون السّير بها عمليا.
ـ القدرة على التّعامل بالرّموز والمجّردات. دون توظيف قدراته ومهارته عمليّا وميدانيا.
ـ القدرة على الإستفادة من الخبرات الماضية في مواجهة المواقف والظّروف والمشتكلات الحالة. ثمّ ابقاء قدراته جامدة  عند هذا المستوى دون التّوظيف بوضعها موضع التّنفيذ العملي.
هذا كلّه يؤدّي إلى حرمانه من الاستفادة من خصائص التّجارب التّي تتيح تعميق مقدّرات الذّكاء، ويؤدّي هذا إلى حبس مقدرات الذّكاء وتُثبط عند حدود معيّنة قد لا تكون صالحة في المستقبل، وبذلك يعاني القهقرة، بسبب فقدان تراكم التّجربة التّي تعطي قوّة للتدارك في جميع مراحل الحياة البشرية.
يقول إمانويل كنط  في نفس المرجع. ص22 “يربح المرء كثيرا إذا ما استطاع أن يدرج مجموعة من الأبحاث في صيغة مشكلة وحيدة، لأنه بذلك لا يسهِّل، وحسب، عمله إذ يعيّنه بدقة، بل أيضا يجعل من الأسهل على أولائك الذين يريدون فحصه أن يحكموا ما إذا كنّا قد وفينا غرضنا أم لا”.
ونستطيع أن نقول، إن بقاء الذّكاء حبيس ذهن صاحبه، كذكاء محض، يبقى قليل الفائدة ويصبح الذّكاء العملي هو الأساس الذي يبنى عليه التّطور.