فلسطين والضمير الإنساني / بقلم هاجر ميموني

ما من إنسان عاقل حتّى وإن كان فيه النّذر القليل من الرّوح الإنسانية، إلاّ أقشعّر بدنه لما يشاهده على الفضائيات ووسائط التّواصل الاجتماعي مما يتعرّض له الشّعب الفلسطيني هذه الأيّام في كامل فلسطين المحتلّة وبالأخص في قطاع غزّة من تقتيل جماعي على المباشر بأسلحة أشد فتكا وتطوّرا، تمتلكها دولة تسمى إسرائيل أعطت لنفسها حقّ التّصرف بدون رقيب ولا حسيب، تقوم بهذه الجرائم التّي لا وصف لها سوى حبّ قتل البشر بغير ذنب.

ما يتعرض له الشّعب الفلسطيني، من إبادة جماعية، وتقتيل جماعي، وخرق مواثيق الأمم المتّحدة، ومخالفة القانون الإنساني، هي جرائم لا تغتفر، فإسرائيل منذ أن أريد لها أن تنشأ وهي تقوم بهذا، وتقوم به بإسناد من دول ماضيها معروف، ولم يثبت التّاريخ يوما أنّها ساندت الشّعوب المضطهدة أو ساندت قوّة من قوى التّحرر، ويعد من غرابة الغرابة أن ننتظر منها موقفا حازما ممّا تقوم به إسرائيل.

لم يسبق عبر التّاريخ وأن عادا العرب غيرهم، وما عادوا إلاّ من عاداهم وما حاربوا إلاّ من حاربهم، ويعيش اليهود في اليمن وفي تونس وفي المغرب، ويمارسون حياتهم المدنية عادية دون مضايقات أو تحرّشات، ولم يلق عبر تاريخ الإنسانية اليهود الذّين عاشوا وسط العرب والمسلمين إلاّ الاحترام، وفي فلسطين يعيش المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب، ويدفع الجانبان ضحايا من عدوان إسرائيل على فلسطين وغزّة، ولم تسلم كنائس المسحيين من هذا العدوان.

لقد عانت الإنسانية عبر تاريخها الطّويل من مثل هذه الجرائم معاناة كبيرة، ما كان لها أن تحدث، لو لم يكن هناك فكر مريض آت من نفسية مريضة حد الجنون، ولَّد سلوكا شاذا يعتمد أصحابه على أحقيّتهم على الآخرين، وهو فكر لا يمتّ بأيّة صلة للمثل العليا التّي تشترك فيها الإنسانية، مثل العدل، مثل المساواة، وها هنا قريب جدا، فما عانته الإنسانية في تاريخها المعاصر في الحرب العالمية الثّانية ناتج عن الفكر النّازي المريض، وكان أكثر من تضرّر منه هم اليهود أنفسهم.

لقد تخلت بعض الدّول العربية على فلسطين، ومنها من سلكت طريق التّطبيع مع إسرائيل، بطريقة المسكنة والهوان موهمة نفسها والشّعب الفلسطيني والإنسان العربي والإنسانية بأنّ هذا المسار سيمكّنها من مساعدة الشّعب الفلسطيني على استرجاع حقوقه وحلول السّلام، فلم تستفد منه الدّول المطبعة إلاّ من تطبيق برامج التّجسس المتطورة، وبالمقابل لم تتخلّى عن فلسطين دول عربية أخرى حين رأت في قضيّة فلسطين قضيتها، ولِمَ لا تتخّذها قضيتها وهي تتعلّق بحقوق مشروعة، وأمام التّشرذم العربي، صار ثقل الأزمة كله على الفلسطنيين، فاستفردت إسرائيل بالشّعب الفلسطيني تفعل ما تشاء. لكن؛ وإن تخلت بعض الدّول العربية عن قضية فلسطين، فإنّه وعلى المستوى الشّعبي تعيش فلسطين في وجدان كل عربي وكل مسلم.

الإنسان الفلسطيني قبل أن يكون عربيّا أو مسلما، هو قبل كل شيء إنسان وأدمي، ولا يحقّ لأيّ كان مهما كانت نحلته أن يعطي لنفسه حق تصنيف نفسه عنصرا فوق الإنسانية الأخرى، ثمّ يشرعن ليفعل ما يريده بالإنسانية الأخرى، وإذا سمّينا الأشياء بمسمياتها، فالشّعب الفلسطيني صاحب الحقّ، اغتصبت أرضه بالقوّة ونكّل به عبر عقود من الزّمن، فماذا ينتظر منه، لكي يقال عنه أنّه إنسان، أيرضخ لمصيره، أم يسلك سبل التّحرر. لم يثبت التّاريخ أن شعبا احتلت أرضه وقبل بحال احتلاله، وأيّ شعب حوصر في الزّاوية، لا تنتظر منه ليعطيك خدّه متصاغرا، فأطياف المقاومة في فلسطين حاليا وعلى مختلف مشاربها نشأت من رحم المعاناة.

ووقودها أطفال انتفاضات الحجار والصّدور العارية، حين لم يسمع لهم وقتها، فلهذا لم تعد التّرسانة الإعلامية المنشأة من طرف الدّول التّي أرادت لإسرائيل أن تكون في المنطقة، قادرة على التّرويج لمخطّطاتهم الاستراتيجية، المناقضة بشكل مسرف للمثل العليا وقيمها والتّي تشترك فيها الإنسانية جمعاء، ومثال عن ذلك، فجثّة الكلب المتلاعب بها على أنّها جثّة طفل إسرائيلي متفحّم أدعي بحرقه من طرف المقاومة، فضحها إنسان غير عربي وغير مسلم، فكان بإمكان هذا الصحفي عند معالجته للصّورة واكتشاف التّلاعب بها أن يبقي الأمر بينه وبين نفسه، لكن آثر فضحها وفضح من استعملها للدّعاية المغرضة، فالدّوافع الإنسانية هي ما حفزته لفعل ذلك، فالضّمير الإنساني حيّ لا يموت وهو من يشكل مجموعة القناعات لتكوين وجدان دائم يتبنى قضية، وما خروج آلاف النّاس في عواصم عالمية عديدة إلاّ ترجمة لضمير حيّ لم يعد التّضليل الإعلامي مفيدا معه.

إنّ الضّمير الإنساني والذّي كان رهينة نظام دولي ظالم مبني على حقّ القّوة وليس قوّة الحقّ، ووضع هذا النّظام لنفسه ترسانة إعلامية للتّضليل والتّخدير استطاع بها كسب نقاط قوّة لصالحه، وأمام المدّ الكاسح لعبقرية الإنسان نشأت وتطوّرت وسائل الاتّصال بما وفرته الانترنيت، بدأت بوادر صحوة الضّمير الإنساني تقوم، ويعبر عنها خروج النّاس على مختلف نحلهم ومنهم حتّى يهود في مظاهرات في عقر دار الدّول التّي أرادت أن تكون إسرائيل في المنطقة، مندّدة بدولها وبما تقوم به إسرائيل، وصار من المفيد جدّا العمل في هذا الاتجاه ومخاطبة شعوب العالم وتركيزا على الدّول التّي تساند أعمال إسرائيل، فهذا المنحى قادر أن يخلق رأيا عاما دوليا ضاغطا، ليس لصالح الفلسطنيين وحسب، وإنما لصالح جميع القضايا العادلة في العالم، فالإنسان الفلسطيني هو أدمي وإنسان، ذنبه الوحيد هو المقاومة من أجل حقه.

هاجر ميموني