بقلم: د. هناء سعادة
بقلوب يعتصرها الألم، ودموع لا تسعها المآقي، وحزن يملأ وجدان الأمة، تنعى الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم الفارس الذي لم يعرف التراجع، والقائد الذي لم يهادن، والرجل الذي حمل قضايا الأمة فوق كتفيه حتى آخر نفس، سماحة السيد حسن نصر الله. ترجل هذا العملاق بعد عمرٍ قضاه في ميادين الجهاد والكفاح، شامخًا كالأرز، ثابتًا كالجبل، متوهجًا كالشمس التي لا تخبو أبدًا.
وفي مشهد مهيب غير مسبوق، تدفق أكثر من مليون وأربعمائة ألف مشيّعٍ من مختلف بقاع الأرض إلى جنازته، ليجددوا العهد مع قائدهم، وليؤكدوا أن راية المقاومة التي رفعها ستبقى خفّاقة أبد الدهر. يعكس هذا الرقم الاستثنائي من المشيعين حجم المحبة والوفاء الذي يكنّه الأحرار لسيد المقاومة، ويؤكد أن رمزية السيد حسن نصر الله قد تجاوزت حدود الأوطان والانتماءات، لتصبح أيقونة عالمية في النضال ضد الظلم والاستعمار. فلم يكن الحضور مجرّد أعداد، بل كان تجسيدًا حقيقيًا لمدى تأثير هذا القائد في قلوب الملايين، الذين رأوا فيه ليس مجرد زعيم فحسب، بل مدرسة في الصمود والتضحية والإيمان المطلق بعدالة القضية.
كما أن وصول أكثر من مليون وأربعمائة ألف شخص إلى الجنازة، رغم الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تعصف بالمنطقة، يؤكد أن السيد حسن نصر الله لم يكن مجرد قائد عابر في التاريخ، بل كان روحًا متجذرة في ضمير الأمة، وأن المقاومة التي قادها السيد لم تكن خيارًا فرديًا أو تنظيميًا، بل كانت إرادة شعبية ممتدة في عمق الأمة، لن تنكسر ولن تتراجع مهما عظمت التحديات.
وإضافة إلى هذا الحشد الهائل، كانت هناك ملايين العيون التي تابعت الجنازة عبر شاشات التلفاز، قلوبٌ تنبض بالحزن والولاء، وأرواحٌ تواقة لأن تكون هناك، لكن حالت بينها وبين الوجود على الأرض ظروفٌ مختلفة. لم يكن وداع السيد حسن نصر الله مجرد لحظة عابرة، بل حدثًا مزلزلًا خطّ بدموع الأمة في صفحات التاريخ، لتبقى ذكراه حيّة، ويبقى اسمه خالداً في ضمير الأحرار.
لم يكن السيد حسن نصر الله مجرد قائد سياسي أو زعيم حزبي، بل كان روحًا متجذرة في ضمير الأمة، وأسطورة حية كتب فصولها بدماء الشهداء وعزيمة المجاهدين وحكمة القادة العظام الذين لا يخشون المواجهة ولا يترددون في حمل الأمانة مهما عظمت التضحيات. كان رجلًا من طراز نادر، فريدًا في شجاعته، متفردًا في رؤيته، متوقد الذهن، بعيد النظر، صلب الإرادة، متواضعًا في شخصه، عملاقًا في مواقفه، قائدًا حمل على عاتقه راية الأمة ولم يفرط بها لحظة واحدة، رغم كل المؤامرات، ورغم كل الضغوط، ورغم كل الأخطار التي كانت تحيط به من كل جانب.
لقد جسّد السيد حسن نصر الله معاني القيادة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فكان قائدًا ملهمًا لا يهاب الطغاة، ولا يتراجع أمام التهديدات، ولا تضعف عزيمته أمام الحصار، ولا تهزه العواصف مهما اشتدت. كان يعرف أن درب المقاومة محفوف بالأشواك، لكنه لم يكن ليسمح أن يُخدش حلم الأمة أو تُسرق قضيتها أو يُحاصر أملها. حمل هم فلسطين في قلبه كما يحمل الأب طفله، وكان يرى فيها جوهر الصراع وحقيقة المعركة الكبرى التي لا ينبغي أن تغيب عن الوعي العربي والإسلامي.
لقد كان تحرير الجنوب اللبناني عام 2000 أولى إشارات النصر التي سطّرها بدماء الشهداء، وعرق المجاهدين، ورؤية القائد الذي يدرك أن الاحتلال ليس قدَرًا مفروضًا، بل لعنة يمكن كسرها، وغدًا يمكن أن يكون أكثر إشراقًا إذا ما امتلكت الشعوب الإرادة والعزيمة. ولم يكد يمر ست سنوات حتى كان نصر تموز 2006، حيث دوّى زئيره في وجه أعتى جيوش المنطقة، ليعلن هزيمة الجيش الصهيوني، ويكشف زيف أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، ويثبت للعالم أن الشعوب حين تؤمن بقضيتها، وحين يكون لها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فلا قوة يمكنها أن تسحق إرادتها.
لقد كان السيد حسن نصر الله مدرسة في الصمود، ومعلمًا في الحنكة السياسية، وأيقونة في القيادة الاستثنائية، وبوصلة لا تنحرف عن مسارها، مهما تعددت المناورات والمؤامرات. كان يعرف أن المعركة لا تقتصر على ميادين القتال، بل هي حرب وعي، وحرب إعلام، وحرب صبر، وحرب ثبات، فكان خطابه دومًا سلاحًا لا يقل أثرًا عن الصواريخ التي كانت تزلزل الأرض تحت أقدام المحتلين. كان صوته يشعل في النفوس الأمل، وكلماته تبث العزم، ووعوده تتحقق على أرض الواقع، لأنه لم يكن من أولئك القادة الذين يتحدثون بلا فعل، بل كان من الذين يفعلون قبل أن يتحدثوا، وحين ينطق، فإن العالم كله يُنصت.
لقد فقدت الأمة برحيله زعيمًا لم يعرف التخاذل، ولم يهادن الطغيان، ولم يخضع للإملاءات، ولم يُغرَ بالصفقات. كان عنوانًا للعزة، ورمزًا للشرف، وشعلة لا تنطفئ في مسيرة الأمة نحو التحرر والانتصار. لم يكن مجرد فرد، بل كان فكرة، ومشروعًا، وحركةً، وإرادةً، ومقاومةً تجسدت في رجل، وجهادًا تجلّى في قائد، وبصيرةً تجلّت في عقل مفكر يرى المستقبل بعيون لا تخدعها سراب التسويات، ولا تضللها وعود الزائفين.
اليوم، وهو يوارى الثرى، لا نودّعه كما يُودَّع الغائبون، بل نزفّه كما يُزفّ الأبطال، ونرفع رايته كما تُرفع رايات المجد، ونمضي على دربه كما تمضي الأمم التي لا تموت بموت رجالها، بل تزداد قوةً لأنهم غرسوا في أجيالها بذور العزة والكرامة. لن يكون السيد حسن نصر الله مجرد ذكرى، بل سيظل حاضرًا في وجدان الأمة، نهجًا لا يموت، ورمزًا لا يُنسى، وصوتًا سيبقى مدويًا في آفاق العزة حتى يتحقق النصر الكامل، وتُرفع راية الحق خفّاقة على كل شبر من أرضنا المحتلة.
رحمك الله يا سيد المقاومة، أيها القائد الذي لم يحنِ رأسه إلا لله، يا من علّمت الأجيال كيف يكون الشرف، وكيف يكون الجهاد، وكيف يكون الصبر، وكيف يكون الانتصار. نم قرير العين، فإن تلاميذك في الميدان، وإن خطاك لن تُمحى، وإن كلماتك لن تموت، وإن دمك سيكون وقودًا للمعركة القادمة التي ستكون بإذن الله معركة النصر الأخير.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.